قضية التعليم في المغرب: من أين وإلى أين ؟

التعليق


محمد جلال


مر التعليم المغربي، منذ خروج المستعمر الأجنبي إلى الآن، من مخاضات عسيرة انطبعت بالطابع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي ميز كل مرحلة من مراحل بناء الدولة المغربية الحديثة. وظلت قضية التعليم مجالا للصراع بين من ينادي بإعطاء التعليم مضمونه الفعلي عبر تمتيع أبناء الشعب المغربي قاطبة بتعليم ديمقراطي ومجاني وذي جودة وميسر الولوج، وبين من يدافع عن التعليم النخبوي الذي يكرس التفاوتات ويرتفع بفئة معينة داخل المجتمع إلى مستويات عليا من التعلم والتحكم على حساب فئة واسعة من المجتمع، والتي وجدت نفسها مضطرة للانخراط في التعليم العمومي وتقبل نتائج الصراع "الإصلاحي" الذي يعصف بهذا التعليم.
قبل الخوض في المسارات التي عرفتها قضية التعليم بالمغرب نسترجع السؤال الذي أصبح كلاسيكيا لدى المتمين بالشأن التعليمي: هل تكمن أزمة التعليم في انعدام وجود مشروع حقيقي ينهض بالتعليم المغربي أم تكمن الأزمة في غياب الإرادة السياسية الصادقة لإخراج التعليم بالمغرب من كهفه المظلم ؟
توخيا للموضوعية والدقة في تحليل عناصر المشكل الذي نحن بصدده سنرجئ النظر في هذا السؤال إلى حين، وسنبتدئ باستعراض بعض المحطات المفصلية في تاريخ التعليم المغربي أملا في رفع الغموض الذي يلف القضية التي نحن بصددها.
ما قبل الاستقلال
 لقد ظل التعليم المغربي، وطوال فترة الاستعمار، خاضعا بشكل شبه كلي لإرادة المستعمر، اللهم التعليم التقليدي الذي ظل منفلتا من سيطرة المستعمر وانحصر في المساجد ودور التعليم العتيق. بحيث اعتبر تعليما وطنيا في مقابل التعليم الأجنبي الاستعماري، ولكن هذا التعليم "الوطني" بالرغم من كونه أطر التنشئة الاجتماعية وقيم المجتمع ، وناهض الاستعمار وسعى إلى الحرية والانعتاق من نير المستعمر وطغيانه، إلا أنه لم يكن متحررا من تدخل "المخزن".
  مما تجدر الإشارة إليه أن التعليم العتيق لم يكن هو نمط التعليم الوحيد الموجود بالمغرب، ذلك أنه وجدت مدارس يهودية أنشئت بالمغرب منذ سنة 1862، وانتشرت بعدة مدن بعد أن أتاح الملك محمد بن عبد الرحمان لليهود فرصة إنشائها في الأرض المغربية. لكن انتشار هذه المدارس لم يكن يطرح مشكلا، على الأقل من الجانب السياسي.
إذا كان اليهود المغاربة نأوا عن التدخل السياسي المباشر في شؤون المغرب، فإن المستعمر الفرنسي سيجد بعد دخوله المغرب أرضا خصبة في مدارس اليهود، خاصة وأن عددا منها كان يعتمد اللغة الفرنسية في التدريس، لذلك سيعمل المستعمر على دعم هذا التعليم والدفع به قدما، ليحوله إلى آلية نافذة في يده من أجل تدعيم أركان الاستعمار.
  وعلى امتداد فترة الحماية، وكما خطط المستعمر، ظل التعليم بالمغرب خاصا بنخبة معينة، إما أبناء المستعمر ذاته، من خلال المدارس البعثية، أو من خلال المدارس التي يشرف عليها المستعمر والتي تضم أبناء الأعيان والفئات التي تخدم مصالح المستعمر بشكل مباشر أو غير مباشر، وانحصر بين أبناء العائلات الأرستقراطية وكبار التجار[1].
  علاوة على كون المستعمر خلق تعليما نخبويا يخدم مصالحه الخاصة فإنه عمل كذلك على توجيه مضامين هذا التعليم قصد "شيطنة" الثقافة العربية وتبخيسها، للنصت إلى هذه الشهادة التي يورها الجابري بهذا الشأن، يقول: "كانت الحصص المخصصة للعربية، سواء في المرحلة الابتدائية أو الثانوية، ذات نتيجة سلبية جدا. لقد رسخت في أذهان التلاميذ صورة مشوهة عن العربية وثقافتها، مما جعلهم يكتسبون رد فعل سلبي لاشعوري ضد كل ما هو عربي، وهو رد فعل ما زالت آثاره قائمة في بعض الأوساط المثقفة."[2]
  واضح إذن أن التعليم بالمغرب في فترة الحماية كان يشكل الذرع الاستعماري الموازي للذرع العسكري، والمعضد له. والأكيد أن المستعمر ما كان ليحقق النجاح الذي حققه، والذي لم نتخلص من رواسبه لحد الآن، إلا عن طريق خلق تعليم استعماري بمضمون إمبريالي صرف. لكن هل تم الرضوخ لهذا النمط من التعليم كلية، الجواب طبعا لا، ذلك أن التعليم الحر، الذي كان جل رواده من أبناء الطبقة الفقيرة والهامشية، استطاع خلق تيار وطني مدافع عن ثقافته وهويته ضد النزعة التغريبية الاستعمارية التي قادها المستعمر الفرنسي.
من أزمة الهوية إلى المبادئ الأربعة في التعليم المغربي
   بخروج المستعمر الفرنسي اصطدم المغرب بمعيقات هيكلية واجهت طموح بناء الدولة المستقلة الحديثة، نظرا للفراغ المهول في الأطر التي يمكنها مباشرة البناء والدفع بعجلة التقدم نحو الأمام، فكانت الفئة الوحيدة التي يمكنها تحمل المسؤولية هي عينها تلك التي استفادت من التعليم الاستعماري[3]، ذلك أنها الوحيدة المؤهلة اجتماعيا وثقافيا لتدبير شؤون البلاد. وبالفعل، ذاك ما حدث.
   مباشرة بعد حصول المغرب على استقلاله، وتحديدا في سنة 1957 تم تشكيل أول لجنة عنيت بقضية التعليم في المغرب وسميت ب "اللجنة الملكية لإصلاح التعليم" حيث أوكلت إليها مهمة وضع تصور شمولي للتعليم المغربي، الذي كان قد تحرر لتوه من تدخل المستعمر الأجنبي. ورغم أن هذه اللجنة، التي كانت عبارة عن مزيج يضم شخصيات سياسية وثقافية ودينية، وكانت مختلفة الغايات إلى حد التعارض، فإنها قد نجحت في بلورة مبادئ يتكئ عليها التعليم بالمغرب، وكان من نتائج ذلك تسطير المبادئ الأربعة للتعليم المغربي، وهي: التعميم والتوحيد والتعريب والمغربة.
كان الهدف من تعميم التعليم إرضاء الفئات الشعبية بتمكينها من تعليم أبنائها عبر جعل التعليم عموميا يستفيد منه أبناء الشعب كافة على قدم المساواة، أما التوحيد فيقصد به توحيد البرامج التعليمية وتحديد سنوات الأسلاك الدراسية، أما التعريب فيقصد به تعريب المقررات المدرسية ولغة التدريس بحيث تعبر عن الهوية الثقافية والحضارية للبلاد، ثم المغربة أي مغربة الأطر المشتغلة بقطاع التدريس بعد أن بدأ التخلي التدريجي عن الأطر الأجنبية.
  رغم الطابع الجذاب لهذه المبادئ إلا أنها ظلت قاصرة ولم تصل إلى مستوى التفعيل المطلوب، ذلك أن هذه اللجنة، المتعددة الروافد والتوجهات، لم تحمل "مشروعا" متكاملا، ولم تبحث عن الحلول الجذرية للمشاكل التي كان يتخبط فيها التعليم بالمغرب "فمصالح أفرادها مختلفة، ورؤاها متباينة، ومشاغلها الحقيقية لم تكن التعليم بقدر ما كانت أشياء أخرى أهم من التعليم. ولذلك لجأت إلى حل توفيقي وسط، يرضي ميول الجميع، ولكنه لا يطرح المشكل بالشكل الذي يجب أن يطرح به"[4]
  هل كان من الممكن تنزيل هذه المبادئ الأربعة وجعلها أمرا واقعا؟ الجواب طبعا هو لا. فإشكالية التعميم ارتبطت ارتباطا جدليا بالميزانية العامة للدولة، ولم يمكن من الممكن، على الأقل وفق الشروط التي سادت آنذاك، تعميم التعليم نظرا لأنه يتجاوز إمكانيات الدولة. وحتى ولو عملت على تقزيم نفقاتها في باقي القطاعات لصالح قطاع التعليم فإن المشكل لم يكن ليجد طريقه للحل، وظل بذلك شعار التعميم معلقا إلى أجل غير محدد.
  أما عن مغربة الأطر فإن الأمر ظل عسيرا أيضا، إن لم قل مستحيلا، نظرا لغياب أطر مغربية مؤهلة وكافية قادرة على حمل مشعل تعليم بعض المواد كالرياضيات والعلوم. مما لزم معه ضرورة الاعتماد على الأطر الأجنبية، التي ظلت تحتل حصة الأسد في صفوف المدرسين حتى مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. هو أمر سيكون له بلا شك كبير الأثر نظرا للازدواجية التي طبعت التعليم المغربي، والتي ما تزال تلقي بظلالها على واقعنا التعليمي والحياتي عامة إلى اليوم، وستظل كذلك في القادم من السنين.
  أما عن التعريب، هذا المطمح الجميل، الذي ارتآه البعض منفذا لانبعاث الذات المغربية العربية من رحم شعلة التعليم، فإنه بقي كذلك مطمحا بعيد المنال، نظرا لارتباطه العضوي بإشكالية مغربة الأطر، التي قلنا عنها فيما تقدم أنها كانت أشبه بالمستحيل، ولأن الحياة العامة كانت مرهونة ب"الفرنسة" التي اخترقت الإدارة والمعاملات وشى مناحي الحياة.
  وحلم التوحيد بقي هو الآخر معلقا تحول بينه وبين تحقيقه إشكاليات شتى. إشكالية رأب الصدع بين الأصالة والمعاصرة، بين الأمس واليوم، وهي إشكالية تسلل من بين تلابيبها موفقون وملفقون كثر أبانوا عن هم مزعوم اتجاه الواقع المغربي والعربي ليسهموا من موقعهم في تعميق جرح التيه الذي أصيب به الجسم العربي والمغربي منه خاصة. ثم إشكالية التوحيد بين المدارس المتباينة الهويات والمرجعيات، خاصة وأننا قلنا أن التعليم المغربي عرف زمن التدخل الاستعماري، بل وحتى قبله، أصنافا عدة من أصناف التعليم، اليهودي والفرنسي والعتيق والحر...الخ. كما أنه لم يكن من صالح القائمين على بعض أصناف التعليم المنتشرة بالمغرب الدخول في مسلسل التوحيد، وذلك لإيمانهم بأن التعليم النخبوي سيضمن لهم فرصا أكثر من أجل التحكم والسيطرة على شرايين الحياة الاقتصادية والتجارية بالمغرب.
  لم تكن إذن هذه المبادئ منطلقا لإنقاذ المدرسة المغربية بل كانت في واقع الأمر البداية الفعلية لنشر الضبابية والقتامة التي رافقت التعليم المغربي طوال العقود التي تلت، وانقلبت إلى مآزق حقيقية حالت دون تحقيق تعليم حقيقي يستفيد منه أبناء الشعب المغربي على قدم المساواة. مآزق تجلت في الأسس التي يمكن أن ينهض عليها هذا التعليم وفي أهدافه وغاياته.
   وهي أزمات سرعان ما ستتبدى على أرض الواقع لتسائل، وبحدة، الشعارات التي رفعتها النخبة التي حملت على عاتقها مهمة إصلاح التعليم المغربي.
  انتفاضة 23 مارس 1965: الحقيقة العارية
  شكلت انتفاضة 23 مارس سنة 1965 أعنف انتفاضة في تاريخ المغرب، وقد نشبت عقب القرار الجائر الذي طبقه وزير التعليم يوسف بلعباس آذاك القاضية بمنع التلاميذ الذين بلغ سنهم 16 سنة من تكرار قسم "البروفي" (السنة الثالثة ثانوي)،، حيث طرد عدد من التلاميذ واستشرت موجة غضب في نفوس هؤلاء التلاميذ وذويهم للترجم في شكل انفاضة هزت شوارع الدار البيضاء يوم 23 مارس 1965، والتي قابلها المخزن بالقمع والتنكيل مسيلا الدماء الزكية التي رفض أصحابها القرار الجائر المتخذ من قبل الجهات المسؤولة عن قطاع التعليم.
لقد أكدت أحداث 23 مارس 1965 الحقائق التالية:
   أولا: إن شعار التعميم قتل حيث ولد، ولم يكن في الحقيقة سوى شعارا لإسكات الجماهير الشعبية التواقة إلى تعليم أبنائها في ظل مجتمع ناشئ تحرر لتوه من نير المستعمر الأجنبي. وظل هذا الشعار بعيدا جدا عن التحقق. لذلك اتسعت الهوة بين مطالب الفئات الشعبية والمتحقق واقعيا في مجال التعليم، لينجم عنه في الأخير انفجار صارخ تمظهر في أحد أشكاله ضمن أحداث 23 مارس 1965.
  ثانيا: تؤكد هذه الأحداث غياب أي رؤية حيال الوضع التعليمي بالمغرب الناشئ، ذلك أنه من المفارقات الغربية أن يطرد التلاميذ الذين فاقوا السن الذي حدد في قسم البروفي دون مراعاة سن ولوجهم الذين كان في أحيان كثيرة يفوق السن العاشرة (سن ولوج المدرسة الابتدائية!). إذ يظهر أن السلطة التربوية لم تكن تحمل أي تصور لتدبير قطاع التعليم، بل كانت تتخبط في العشوائية والارتباك الذي خلفه خروج المستعمر الفرنسي.
  ثالثا: إنه من العجب أن المذكرة القاضية بطرد التلاميذ الذين فاقوا السن المسموح به شرع في تطبيقها حتى قبل دخولها حيز التنفيذ.
الميثاق الوطني للتربية والتكوين: رمي الجمرة نحو المجهول
   في سنة 1999 التأمت لجنة خاصة بالتربية والتكوين، وهي لجنة كان قد أمر الملك الراحل الحسن الثاني بتشكيلها، وأوكلت إليها مهمة صياغة ميثاق وطني حول التربية والتكوين، الميثاق الذي تم إقراره رسميا في شهر أكتوبر من سنة 1999، والذي اعتبر بمثابة توافق مجتمعي عام يرمي إلى النهوض بالمدرسة المغربية وجعلها قادرة على القيام بالأدوار المنوطة بها على الوجه المطلوب.
  لا يختلف اثنان في أن التحديات والرهانات التي عشناها ونعيشها تتطلب إرادة سياسية صادقة وتوجها استراتيجيا فاعلا محفوفا بتبصر عميق إزاء الواقع والمستقبل المغربي، عبر جعل المدرسة المغربية في قلب الاهتمام الدولة والمجتمع، بعيدا عن المزايدات السياسية والتدافعات المصلحية الظرفية. لكن المأساة تكمن في كون الجهود التي تبذل في هذا الشأن لا تخرج عن نطاق إعادة التنظير في واقع الحال بشكل حالم أحيانا وبأشكال تروم المراوغة والقفز على المشاكل في أحيان كثيرة.
  صحيح أن الأزمة الحقيقية التي تعصف بقطاع التعليم أزمة مركبة تتداخل فيها أبعاد كثيرة، أزمة الإمكانات التي تظل دائما دون المستوى المطلوب، أزمة الانقطاع والهدر المدرسيين، أزمة الأمية، التي ما تزال نسبها مخجلة، أزمة مواصفات المتعلمين بعد التخرج، أزمة التكوين، أزمة المناهج...الخ، مقابل أزمة أخرى كبرى وهي أزمة الإصلاح الارتجالي الذي يتعامل مع مجمل الأزمات السابقة تعاملا سطحيا كميا إحصائيا، بعيدا عن الخصوصيات والأهداف الحقيقية التي يجب أن نولي وجهنا شطرها ونجتهد من أجل تحقيقها.
  لقد رفع الميثاق الوطني للتربية والتكوين تحديا حقيقيا من أجل إصلاح المنظومة، وتجلى ذلك من خلال العشرية التي عرفت ب "عشرية التربية والتكوين"، ونص على ضرورة بلوغ مجموعة من الأهداف همت مسألة تعميم التعليم، بما في ذلك التعليم الأولي والتربية غير النظامية ومحاربة الأمية. وركز على ضرورة تفعيل طابع اللامركزية والشراكة داخل القطاع، وربط هذا القطاع بالمحيط الاقتصادي، عبر دعم الأشغال اليدوية والأنشطة التطبيقية بدءا من المستويات الدنيا من التعليم.
  كل هذه المطامح، على الرغم من طابعها الجذاب ظاهريا، إلا أنها تحمل مفارقات صارخة، فمشكل التعميم لا يمكن أن يحل بمعزل عن مشكل الفقر، والجهود المبذولة في هذا السياق (مبادرة تيسير نموذجا) تظل قاصرة ولا ترقى إلى مستوى تحقيق المطلوب، لذلك يبقى التعميم يراوح الأوراق التي خط فيها. أما عن اللامركزية والشراكة فإن المؤسسات التي يقع على عاتقها الدخول في هذا المضمار غير مؤهلة إطلاقا للاضطاع بهذه المهمة، سواء لقصورها الذاتي أو لغياب قوانين واضحة تؤطر الصلاحيات وتحدد نقط التدخل بشكل يكون من الممكن معه تحقيق شراكة حقيقية وناجعة.
  إن غياب التبصر الحقيقي بالأشياء دائما ما يفضي إلى نتائج عكسية، وتكون المبادرات المتسرعة عامل إفشال بدل أن تؤتي المطلوب، والأزمات التي يعرفها قطاع التربية والتعليم اليوم ما هي إلا تجل للضبابية التي عرفها تدبير القطاع منذ عقود خلت، وبين إكراهات ظرفية و طموحات حالمة تخرج مشاريع متسرعة تضرب في عمق المنظومة، التي من الواجب أن يكون التفكير فيها تفكيرا عميقا ينطلق من أسس متينة ويتجه نحو غايات واضحة.
  وإذا نظرنا إلى واقع حال المنظومة اليوم سنعدد مئات المعضلات التي تنخر جسد قطاع التربية والتعليم، ولعل من أبرز مشاكلها تلك المرتبطة بالمدرس بحد ذاته! مشكل تدبير الموارد البشرية وما يرافق هذا المشكل من اختلالات خطيرة يكون لها انعكاس صارخ على مستقبل القطاع عامة.
  كما أن الميثاق حمل ألغاما ظلت راكدة لما يقارب العقد ونصف العقد، مثل مسألة التعاقد في منظومة التربية والتكوين، وهي المعضلة التي لم تخرج إلى الوجود إلا سنة 2016، عندما تم إقرار اعتماد التوظيف بنظام التعاقد في قطاع التربية والتكوين. لغم حمله الميثاق في إحدى مواده، حيث أشار إلى أنه "يتم تنويع أوضاع المدرسين الجدد من الآن فصاعد بما في ذلك اللجوء إلى التعاقد على مدد زمنية قابلة للتجديد."[5]
رؤية إستراتيجية: لماذا ؟
  إن الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم (2015-2030) لم تخرج من حيث مراميها الكبرى عما تم تسطيره سابقا، مسألة تعميم التعليم، الجودة، تكافؤ الفرص...الخ. وحتى وإن طرحت هذه الإشكاليات بقالب مفاهيمي جديد (اقتصاد المعرفة، مجتمع المعرفة، الرأسمال البشري...الخ) فإنها لا تخرج عن المنحى العام الذي كرسته المحاولات الإصلاحية السابقة، وظلت محافظة على الطابع النخبوي للتعليم المفضي إلى تكريس الطبقية الاجتماعية.
   أما عما يمكن اعتباره إضافة في هذه الرؤية فهو الحديث القديم المستحدث حول اللغات، التي حضرت بصيغ مختلفة، سياسة لغوية منفتحة تعزز اللغتين الرسميتين للبلاد وتنفتح على اللغات الحية، وذلك تحت مطية مسايرة المستجدات العلمية والتقنية والثقافية والفنية...الخ بالعالم. لكن الرؤية لم تسلم من حبال التناقض عندما ذهبت إلى التنصيص على مسألة التناوب اللغوي، باعتباره يروم تنويع لغات التدريس...عن طريق التدريس بها، بتعليم بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد العلمية باللغة الأجنبية. [6] وهو أمر يفضي بنا مجددا إلى الإشكالية التي طرحت منذ زمن، والتي سلطنا الضوء عليها فيما تقدم، ذلك أن تدريس بعض المواد بلغات أجنبية يستدعي ضرورة توفر أطر مكونة وقادرة فعلا على تدريس هذه المواد بتلك اللغة، والأمر طبعا لن يحل بعصا سحرية، فالأمر مرهون بجدلية وثيقة لا يمكن فيها الفصل بين المدرس الذي يدرس وتاريخه التعليمي والتكويني ذاته.
  كما أن هذه الرؤية ظلت قاصرة عن تقديم تصور واضح في جانب طالما اعتبر قطب الرحى في كل مسلسل إصلاحي، الموارد البشرية التي تقع على عاتقها مهمة الانخراط في مسلسل التربية والتكوين بمختلف المهام والدرجات. تحدثت في الدعامة التاسعة على أنه: "يتم على المدى المتوسط، بالتدريج، اعتماد تدبير جهوي للكفاءات البشرية مع النهج اللامتمركز لمنظومة التربية والتكوين"[7] دون أن تحدد بوضوح الكيفية التي سيتم بها تدبير هذه الموارد، علما أنها أشارت إلى تنويع نمط توظيف المدرسين! مما ترك الباب مفتوحا على تأويلات عدة لم تنكشف إلا عند الإقرار الرسمي للنظام التوظيف بالتعاقد في منظومة التربية والتكوين، دون التشاور مع الفاعلين المختصين وكذا النقابات التي صرحت بعدم إشراكها في هذا التدبير الأحادي الجانب.
  القانون الإطار 51.17: تعزيز الطبقية في قطاع التعليم
   بالرغم من الفشل المتتالي لكل المحاولات الإصلاحية إلا أن السلطات المختصة بقطاع التربية والتكوين ظلت متمسكة بنفس النهج في تعاطيها مع الإشكاليات التي تعص بهذا القطاع، وبدل من الرجوع خطوة إلى الوراء من أجل وضع تقييم حقيقي للوضعية المزرية التي يعيشها القطاع وفتح حوار حقيقي حول مشاكل القطاع في وجه المعنيين (النقابات، أطر مختصة...الخ)، سارعت السلطة التربوية المختصة إلى الانفراد بالقرار وطبخ مخطط جديد يرمي إلى تكريس الهوة وتعميق المشاكل التي تعصف بهذا القطاع.
  ما نرمي إليه هنا هو التنبيه على بعض الثغرات الخطيرة التي جاء بها مشروع القانون الإطار رقم 51.17، والذي ما زال موضع أخذ رد بين الفاعلين النقابيين والسياسيين إلى حدود اللحظة. سنترك جانبا السياسة اللغوية التي أفضنا فيها القول سابقا، وسننطلق رأسا نحو مشاكل أخرى يطرحها هذا القانون الإطار.
  يترك مشروع القانون الإطار في فراغات تدفع إلى الريبة والشك في عدد من مواده: المادة 26 التي تنص على خلق "ميثاق المتعلم"[8]، أسسه مضامينه أهدافه...الخ، كلها ظلت معلقة بيد المجلس الأعلى للتربية والتكوين الذي سيبدي الرأي بشأنه! وهو ما يسمح بتكهنات عدة. فهل سيصبح المتعلم بموجب هذا الميثاق ملزما بإشراطات ما تحددها السلطة المجلس الأعلى للتربية والتكوين؟ وهل ستراعي هذه الإشراطات المصلحة الفضلى للمتعلمين فعلا ؟
  تنص المادة 48 من هذا القانون الإطار على أنه "يتم بكيفية تدريجية إقرار أداء الأسر الميسورة لرسوم تسجيل أبنائها بمؤسسات التربية والتكوين بالقطاع العام." [9] وهو أمر يستدعي وقفة حقيقية من أجل مساءلة هذا القرار.
  معلوم أن المدارس العمومية هي من نصيب الفئات الشعبية الأقل حظا، وأن من يلجها عموما هم أبناء الفئات المحرومة، أما من توفرت لهم السبل والإمكانات فإنهم يلجون نمطا آخر من التعليم يوفر لهم فرصا أكثر من أجل الاندماج المهني والاجتماعي، لذلك فإن عبارة "الأسر الميسورة" لا تستقيم إطلاقا بما أننا نتحدث عن المدرسة العمومية بمواصفات مرتديها وذويهم.
  ثم إنه حتى لو افترضنا جدلا وجود أسر ميسورة يتمدرس أبناؤها بالمدارس العمومية، وأنه بإمكانها فعلا أداء رسوم التسجيل تلك، ألن يؤول الأمر إلى تكريس التفاوتات من داخل المدرسة الواحدة، بين تلميذ مؤدى عنه وآخر لا؟ ما مدى فداحة الوقع النفسي والاجتماعي الذي يمكن أن ينجم عن هذا الأمر؟
 إننا نتساءل: في ظل هذا الوضع هل مازال بالإمكان المراهنة على تعليم يؤمن الفوز في المغرب ؟
      نقرأ في التقرير الذي أعدته وزارة التربية الوطنية سنة 2014 والمعنون ب"اللقاءات الشاورية حول المدرسة المغربية" التالي: "ستعمل الحكومة على إعادة الثقة في المدرسة العمومية وإطلاق مدرسة التميز بتفعيل اللامركزية وترسيخ التعاقد في المؤسسات التعليمية من خلال مشاريع قابلة للتقويم، وربط وتوفير الإمكانات بمستوى الإنجاز، وتوسيع هامش حرية التدبير المالي للمؤسسات التعليمية، وربط المسؤولية بالمحاسبة"[10]
هل مازال بالإمكان الثقة بالمدرسة العمومية في ظل هذه الأزمات المتتالية؟
  إن المدرسة المغربية اليوم لا تتطلب مزيدا من المشاريع الارتجالية الغير المحسوبة، خاصة في ظل الأزمات الدولية والإقليمية المتسارعة، بل تتطلب تعبئة حقيقية تنهض بمقوماتها الفعلية، عبر جعل المتعلم والمعلم في قلب اهتمامات الدولة والمجتمع، بعيدا المخططات التي تهدف إلى خلق المزيد من الفئوية والهشاشة داخل قطاع التربية والتكوين، وتغليب المصلحة العليا للبلاد ومستقبلها والمرهونين بتعليم وتنشئة الأجيال التي ستقود مشعل البناء والتغيير.




[1] : يمكن الرجوع إلى الإفادات التي يوردها محمد عابد الجابري بهذا الشأن، أنظر الجابري، أضواء على مشكل التعليم بالمغرب، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ط1 سنة 1973، ص 43
[2] : المرجع السابق، ص 47.
[3] : يربط الجابري ربطا جدليا بين الوضعية الطبقية لهذه الفئة في ظل الاستعمار والمآلات التي وصلت إليها بعد الاستعمار، معتبرا أن ما جعل الاستعمار يراهن عليها هو هذا الوضع ذاته لما لها من تأثير اجتماعي ومكانة داخل المجتمع، باعتبارها تتألف من التجار وكبار الملاكين.
[4] : الجابري، أضواء على مشكل التعليم بالمغرب، مرجع سبق ذكره، ص 65.
[5] : الميثاق الوطني للتربية والتكوين، القسم الثاني، المجال الرابع، المادة 135.
[6] : المجلس الأعلى للتربية والتكوين، الرؤية الإستراتيجية لإصلاح التعليم 2015-2030، الملحق 2.
[7] : الرؤية الإستراتيجية لإصلاح التعليم، الدعامة التاسعة، ص 28.
[8] : انظر مشروع قانون- إطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، المادة 26.
[9] : مشروع قانون-إطار رقم 51.17، المادة 48
[10] : وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني، اللقاءات التشاورية حول المدرسة المغربية، سنة 2014، ص 13

0 comments:

إرسال تعليق

أترك تعليقا للتعبير عن رأيك