هل من الضروري أن يكون المدرس باحثا ومثقفا ؟

1 comment

 

الأستاذ محمد جلال


هل من الضروري أن يكون المدرس باحثا ومثقفا ؟

   ليس التعليم شيئا جديدا في تاريخ الإنسان؛ فإذا تأملنا أثر الإنسان عبر التاريخ الطويل، سنجد أن المحاولات التعليمية ملازمة للكائن الإنساني منذ القدم، ويمكننا أن نقف عند الحضارة اليونانية القديمة، لنكتشف أنها حضارة تعليمية بامتياز، فالحركة السفسطائية، التي قادها بروتاغوراس، حركة تعليمية، وسقراط؛ الذي وهب وقته وحياته لتعليم شباب أثينا، لم يقتل إلا لأنه معلم علم أفكارا مخالفة للاعتقاد السائد، وأفلاطون، صاحب الأكاديمية المعروفة، درس أرسطو، الذي كرس بدوره وقته لتعليم أبناء أثينا في  الليقيون (Lycée). كما أن الحضارة العربية الإسلامية الوسيطية زاخرة بالمعلمين، خصوصا في الفترة العباسية بالعراق، وهي فترة انتعشت فيها كتاتيب تعليم الأطفال والحلقات التعليمية المتنوعة والمساجد التي فتحت لتدريس علم الكلام والعلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية والعلوم العقلية.

    صحيح أن التعليم في زمان الناس هذا يختلف كثيرا عن التعليم القديم، من حيث المناهج والطرق والأشكال؛ فالتعليم اليوم هو نتاج ثورة حقيقة تجاوزت الماضي، وغاصت في أعماق الطفل والمراهق، بحثا ودرسا، لتشييد معمار تعلمي دقيق يتدرج صعودا لبناء إنسان راشد، مؤهل وفاعل؛ لكن التعليم، سواء في الماضي أو الحاضر، هو تفاعل أصيل بين ذات معلمة، عارفة بالدرس وما وراءه، وذات متعلمة تبحث عن العلم والاعتراف.

   لمّا كان القصد ها هنا أن نتحدث عن مدرس اليوم، بكل ما يحمل هذا اليوم من سمات ثقافية وعلمية وتكنولوجية، فإن الواجب يستدعي أن نطرح سؤالا جوهريا، نعده مطية نمتطيها للدخول في تفاصيل الموضوع. فهل يساير مدرس اليوم الثورة الثقافية والعلمية والتكنولوجية الحاصلة؟

   إن الإجابة عن هذا السؤال الكبير تتطلب إنجاز دراسة وافية للوقوف عند الحقائق الممكنة. لكننا سنقاربه بإيجاز شديد اعتمادا على الرؤى الممكنة، دون أن نجزم بوجود إجابة واحدة مطلقة عنه؛ فالجزم لا يصح، والحالة هذه، إلا بالوقوف عند الحقائق التي تعززها الوقائع العينية، والتي يمكن، في حال استخلاصها، أن تكشف جانبا مهما من ثقافة المدرسين وشواغلهم الذهنية.

    يتطلب مجتمع المعرفة، الذي هو الغاية الجليلة المنشودة في سائر البلدان، أن يربى النشء ويعلم تعليما فعالا؛ بحيث يكون في مكنة المتعلم أن يحمل مشعل البناء والتطوير في مجتمعه؛ وذلك لا يتم إلا إذا كان المدرس قادرا على إيقاد شعلة التعلم في نفوس النشء؛ بحيث يجعلهم يقبلون على التعلم بهمة عالية ويروي ظمأهم من نبعه الجاري. وهذا النبع لا يجري إلا إذا كانت معارف المدرس متجددة، وكان وثيق الصلة بالكتاب، يبحث بنهم عن كل ما يجعل فكره يتطور وينمو. ناقدا وفاحصا، لا يقبل السكون والركون في حال الفقر المعرفي، ساعيا إلى التجديد والتطوير دائما.

   إن النتيجة الحتمية للاستكانة هي الضحالة، ضحالة الفكر وضحالة الإنجاز؛ لذلك لا مناص من المزاوجة بين البحث والتعليم، وهذه قضية سبق أن أكد عليها البيداغوجي الفرنسي أوليفيي روبول حين اعتبر أن "الجمع بين البحث والتعليم في كل لا تنفصم عراه! فان باحثا يرفض التعليم، يتجاهل الطابع الأساسي في الحقيقة، أعني التبادل. وإن معلما لا يتساءل عما يعلمه، يحتقر الثقافة وتلامذته وذاته. فليس الأول سوى علاّمة وليس الثاني سوى سفسطي"[1]. ص 75

   لا يصح أن يقف المدرس عند عتبات ما يدرسه في فصله الدراسي؛ ذلك أن كل درس يدرسه هو نتاج لمسار طويل من التفكير والبحث؛ وهو مسار يتوجب على المدرس أن ينفتح ولو على بعض محطاته، وأن يوسع أفقه ليرى أبعد مما يرى تلميذه في الفصل، وأن يكون ملهما لتلاميذه؛ قدوة في النهم المعرفي والانشغال الفكري.

   هب أن مدرسا يحضر الدروس لتلاميذه، فينجزها شحيحة، ويقومها تقويما مفلسا، ويدرس في حجرة خالية من كل ما يثير الفضول ويشفي الغليل من المطالعة والاكتشاف، هل ستتقد شعلة الإلهام والرغبة في التعلم عند تلاميذه؟ وهب أنه لا يحمّل نفسه عناء البحث والتجديد، ولا ينفتح على المنجزات الإنسانية، الأدبية والثقافية والفنية والعلمية والتكنولوجية؛ فهل سيستمر نبعه في التدفق إلى الأفنان الطرية، التي هي أحوج ما تكون إلى نبع متدفق أخاذ؟!

  يتغذى التلاميذ من الفضول المعرفي والتربوي لدى أساتذتهم، ولا مناص من أن يجعل المدرس فصله الدراسي فضاء نشيطا يشارك فيه التلاميذ فيندمجون بعقولهم وقلوبهم في هذا الفصل؛ فالعلاقة بين المدرس وتلاميذه علاقة وطيدة جدا، تتأثر سلبا أو إيجابا بحسب حافزية وفاعلية المدرس. وقد فطن أهل النظر قديما إلى هذه العلاقة الوثيقة، فمثلها الغزالي بالآتي: "مثل النقش من الطين، والظل من العود. فكيف ينقش الطين بما لا نقش فيه، ومتى استوى الظل والعود أعوج؟"[2]

  وانتهاء فإن الانفتاح على المستجدات التربوية، والاستفادة من التجارب والخبرات التي تهم المدرس في مجال اشتغاله، وإثراء خبراته التدريسية، كل ذلك يجعل من مهمة التدريس مهمة شيقة، فيزول الملل الذي قد تسببه رتابة العمل، وتقل ضغوط المحيط. وموازاة مع البحث العلمي والمعرفي، فإنه مطالب بقراءة تلاميذه، عبر الكشف عن هواجسهم والصعوبات التي تواجههم، والأخذ بأيديهم نحو النجاح.



[1] : أوليفيي روبول، فلسفة التربية، ترجمه إلى العربية جهاد نعمان، منشورات العويدات، بيروت، ط  2، سنة 1982، ص 75.

[2] : أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، دار إحياء التراث العربي، بيروت (د.ت) ج1، ص 58.   

 


هناك تعليق واحد:

أترك تعليقا للتعبير عن رأيك