التراجيديا والموسيقى عند فريدريك نيتشه

التعليق

 


التراجيديا والموسيقى عند فريدريك نيتشه 

كتاب "مولد التراجيديا" هو من البواكير الفكرية الأولى لنيتشه، عرض فيه تصوره الجمالي، و أسهب القول في التراجيديا الإغريقية و علاقتها بالموسيقى. في مطلع الكتاب يقر بأننا سنقدم خدمة جليلة لعلم الجمال إذا ما فهمنا بأن الفن يستمد مقومات نموه المستمر من الثنائية المتمثلة في أبولو و ديونيزوس، و منه يشرع  في تحليل هذه الثنائية و مقومات نمو الفن الإغريقي .

  هدفنا الأساس من هذا المقال المقتضب هو أن نصوغ تصور نيتشه للتراجيديا وعلاقتها بالموسيقى، كما سنعمل على طرق المؤشرات التي اعتبرها نيتشه عامل "انتحار" داخل الفن التراجيدي اليوناني، و به سنستجوب العقلية العلمية التي انتقدها بحدة، و من فم أصحاب هاته العقلية سندون عوامل هذا الانتحار. فما التراجيديا ؟ ما أصلها ؟ و ما علاقتها بالموسيقى ؟ ما مقومات نموها ؟ و ما بواعث فناءها ؟ هل حدث أفول جنائزي أكيد للتراجيديا اليونانية ؟ أم أنها تنتظر فقط موت الخصم لتعود الى مجدها من جديد ؟ .

 

أولا : نشأة التراجيديا

 


  يذهب جون لوفرون (Jean LEFRANC) في مقالته المعنونة ب"التراجيديا والموسيقى" (Tragédie et musique)، إلى إثارة مجموعة من التقابلات التي طرحها نيتشه (علاقة الموسيقى بالتراجيديا؟ نتيجة التراجيديا؟ الإغريق والموسيقى التراجيدية ؟ )، و يعتبر أن هذه التقابلات تطرح أسئلة غير متوقعة ، بل و مدهشة، و ذلك لكون نيتشه، كما معاصريه، ليس له أية معرفة بالموسيقى التراجيدية القديمة[1]. يقر نيتشه أن أصل التراجيديا بقي سؤالا محيرا، بحيث أن سؤال أصل التراجيديا ظل مطروحا بدون حل بالرغم من أن "أجزاء ذلك التراث القديم قد خضعت لعدة ترقيعات و تجميعات، إلا أن ذلك سرعان ما توقف"[2].

  سنعمل من خلال هذه الورقة على الوقوف عند تصور نيتشه للتراجيديا وعلاقتها بالموسيقى بين ظهورهما و ركودهما .

 

 

 

أ) حول معنى التراجيديا:



  تعني كلمة "تراجيديا" في أصلها الكلاسيكي اليوناني "أغنية الماعز"، نسبة إلى طقوس احتفالية عبارة عن رقص و غناء/ديثرامب مصاحبة بالتضحية بالماعز في اليونان القديمة. و تتعلق التراجيديا عموما باستعراض حدث يثير انفعالات الألم (غالبا ما ينتهي بالموت)، و ذلك من أجل كشف الجانب المأساوي للحياة، غالبا ما يكون بطل هذا الحدث ذا مكانة عالية في الوسط الذي ينتمي إليه (لنتذكر أوديب لسوفوكل)، فالتراجيديا حسب نيتشه تعمل على إثارة مشاعر التحدي و به تمحق مشاعر الخوف و الشفقة و تطهر النفس من هذه الإنفعالات، و في هذا السياق يعتبر نيتشه أن التراجيديا دليل على أن الإغريق لم يكونوا متشائمين، فمن خلال التراجيديا و الموسيقى تتضاءل منافذ الاشمئزاز من رعب الوجود و عبثيته، إذ يتدخل الفن ليحوله "إلى تمثلات يمكن التعايش معها: إنه السمو الذي يروض به الفن الرعب، و الهزل الذي به يخلصنا الفن من الاشمئزاز الناجم عن العبثية"[3]

  تجد التراجيديا أساسها في الشعائر الميثولوجية القديمة في بلاد اليونان ، لكن الروايات التراجيدية التي كتبها مثلا أسخيلوس ، يوربيد ، سوفوكل ، كانت تتسم بالطابع الأدبي أكثر من اتسامها بالطابع الديني/الميثولوجي .

  لن نتطرق للتراجيديا من حيث بنيتها الداخلية (المقدمة ، العقدة ، الحل ...الخ) أو عناصرها (الشخصيات، الموضوع التراجيدي...) أو المشهد و إطار العرض المسرحي، بل سنتناولها في بعدها و دلالتها الفلسفية و الوجودية، لأن نيتشه عندما كان يتحدث عن التراجيديا اليونانية لم يكن يتحدث عنها بلغة أرسطية واصفة و لا بلغة تاريخية (لأن التراجيديا قد تغيرت بين أسخيلوس و يوربيد و سوفوكل، من حيث تموضع أغنية الجوقة على امتداد المشهد التراجيدي، كما تغيرت عناصر المقدمة الحوار و أطواره و عدد الشخصيات)، "بل إن نيتشه كان يتحدث عن التراجيديا مداعبا إياها و بلغة فنان جمالي عاشق حتى الثمالة".[4]

  في كل الأحوال تتصف التراجيديا بتصاعد الأحداث نحو التوتر و القلق و تمتزج بلغة الموسيقى التراجيدية المصاحبة لها،  التي تزيد من حركتها و تأثيرها، و هذا العنصر الغنائي هو الذي يضفي على التراجيديا قوتها و يجعلها أكثر جاذبية.

 

  ب) الميلاد التراجيدي لـ ديونيزوس و تصور نيتشه للتراجيديا


  لعل تصور نيتشه الديونيزوسي، الفني للوجود هو ما يملي الوقوف عند الإله البطل "ديونيزوس"، إله الموسيقى و المناضل من أجل تخطي المصائب لإعطاء معنى للحياة و جعلها تستحق أن تعاش .

  ديونيزوس من بين أهم الآلهة عند اليونان، إنه إله السكر و الخمر و الفنون الجميلة، كانت ولادته غريبة كما كانت حياته بئيسة ، ولد في ظروف جد معقدة، فهو ابن للإله زيوس و سيميلي (و هي امرأة و ليست إلهة )، لذلك كانت الولادة من زيوس و ليس من الأم. أخرج زيوس من أحشائه ديونيزوس الصغير و احتفظ به في فخذه لمدة ثلاثة أشهر لكي تكتمل ولادته بشكل "طبيعي". و قد أثارت ولادة ديونيزوس حقد و غيرة هيرا (زوجة زيوس)، مما اضطر معه زيوس لتحويل ديونيزوس على بنت و سلمه إلى أتاماس و إينو ليتعهداه بالرعاية و التربية، ولكن الإله الصغير لم يسلم من شر هيرا التي سلطت الجنون على أبويه بالتبني (أتاماس و إينو)، مما دفعه إلى الهجرة بعيدا حيث حوله زيوس إلى جدي –قصد تمويه هيرا- و هناك تعهدته بعض الحوريات بالرعاية. و عندما وصل ديونيزوس إلى سن الرشد لاحقته لعنة هيرا فأصيب بالجنون، و تاه في العالم، و كان عندما يدخل إلى بلد ما يعلم الناس طرق غرس الكروم، و كيفية صنع الخمور.

  استمرت رحلة ديونيزوس التراجيدية في التنقل بين مصر و سوريا و اليونان، و بعد تحرره من الجنون و تعلمه الأسرار الإلهية، أخذ سبيله حيث أراد أن يدخل تعاليمه لزراعة الكروم و صنع الخمور، و راح ديونيزوس ينشر تعاليمه، و في كل مكان مر به يحتفل به اعترافا بجميله، و قد كان هذا الاحتفال خليط من الرقص و الغناء/الديثرامب، يؤدى على شكل دائري في الوقت الذي يربط فيه حيوان (ثور أوتيس ) يرمز لديونيزوس و يكون ذلك في مكان مقدس يسمى "تيميلي"، و هي حفرة مخصصة لجمع دم الضحايا، أي أنها مكان مقدس .

  لقد مثل ديونيزوس لليونان الإله الحامي و المحافظ على جميع الفنون الجميلة، وبالأخص التراجيديا والكوميديا المنحدرين من حفلاته التي كان يحييها الباخوسيون. كانت الأعمال الفنية تعكس صورة ديونيزوس كإله شاب، يضع على رأسه إكليلا من أغصان الكروم و عناقيد العنب.

  أخيرا يمثل ديونيزوس الإله الشريد النقيض لكل الآلهة، إنه رمز للجنون واللاعقل، رمز للخمر، هاجر من بلاد اليونان كرها ثم طوعا (إلى الهند) ليحارب أنظمة العقل، و يحرر الشعوب المستعبدة من الولاء لقيم لا تخدم الحياة. ديونيزوس هو إله غير معترف به من قبل آلهة العقل، لأنه رمز الجنون و التهور، رمز لانحلال القيم السائدة (المثالية)، رمز الاندفاع الحيوي، إنه باختصار رمز للحياة.[5]

 

   ب) الدلالة الفلسفية التي يعطيها نيتشه لميلاد ديونيزوس

 

  يمثل ديونيزوس بطلا تراجيديا يجسد بؤرة الحياة الأبدية و الانفتاح على الآفاق المجهولة باعتباره مقاوم ضد الموت، يؤسس لحياة اللذة من داخل الألم، إنه بحق منبع التراجيديا و محور الفن اليوناني، لأنه محور الاحتفال و بطله و كل الطقوس الاحتفالية تتمحور حوله.

  لعل هذا الصراع ضد القدر و الموت هو ما يجسد الإنسان المتفوق الذي لا يعوقه عائق و لا يحد إرادته حد، هو إنسان القمم الشامخة و المرتفعات العالية، الذي يذكرنا بزرادشت و هو يعانق الحياة.

  إذا كان الموت قدرا، فإن التراجيديا هي مقاومة للموت نفسه و حلول في الزمن الأبدي. و إذا كان الموت يظل يفرض نفسه فعلى الأقل يجب أن نختار كيف نموت، يجب أن نقاوم كي نموت بشرف و كرامة، و هذا لا يتحقق إلا بالمواجهة البطولية التي يجسدها الإنسان القوي و المتفوق، و ديونيزوس هو الرمز الأكثر تعبيرا عن ذلك.

  قصد تحقيق هذا التعالي و التفوق لابد من توفر الموسيقى، فهي في نظر نيتشه عنصرا حاسما في الاحتفال التراجيدي ، فبالموسيقى يعود ديونيزوس، بعد اختفاء طويل، ليعبر عن الإرادة الكونية (ما يسميه نيتشه بالروح أو القوة الديونيزيسية)[6]

  إن الموسيقى و التعبير الفني هما العاملان المسؤولان على تحرر اللغة و الجسد من شطحات النحو "المقدسة"، و الكفيلان بأن يجعلا الحياة تستحق أن تعاش، و ذلك من خلال الرمز، و الصوت الذي يستوعب الوجود دون أن يتعالى عليه.

 

 

ثانيا : الموسيقى و التراجيديا من الأوج إلى الانحطاط





  في مقدمة الترجمة الإنجليزية لكتاب "مولد التراجيديا"[7]، يقر ميخائيل تانر بصعوبة تحديد طبيعة الموسيقى الإغريقية، و ذلك لافتقرنا إلى المعلومات الضرورية عنها، و في عملنا هذا سنحاول اختراق هاته الصعوبة لبيان العلاقة الرابطة بين الموسيقى و التراجيديا عند الإغريق كما تصورها نيتشه، كما سنعمل على تفكيك  حاصل القول الذي يذهب إليه، عندما يقر بأن التراجيديا الإغريقية انبرت من أعطاف الموسيقى، و في خندق الروح العلمية ماتت.

   ليس غرضنا في هذا المقام أن نعرض لأصول التراجيديا و الموسيقى في إطارهما التاريخي، و لا أن نستعرض أعمالا توثق للعلاقة بين هاتين الأخيرتين، بقدر ما نروم كشف المؤشرات و الدلائل العامة  التي أقر بها نيتشه بصدد اشتغاله على "التراجيديا و الموسيقى"، من مرحلة الأوج و السطوع إلى مرحلة الفتور و الانحطاط، لكن ما معنى "مولد التراجيديا من روح الموسيقى"؟ كيف تولد المأساة من رحم البهجة ؟ و ما علاقة الإغريق بالموسيقى التراجيدية ؟ هل جسد الإغريق الشكل المتشائم للفن؟

 

أ) الموسيقى و التراجيديا في نقائهما الأول

  يعتبر جيل دولوز في كتابه "نيتشه و الفلسفة"، أن التراجيديا إنما هي الجوقة الديونيسية التي تسترخي و هي تقذف إلى خارج ذاتها عالما من الصور الأبولونية، كما يحددها نيتشه ذاته باعتبارها "شكلا جديدا من الوعي الجمالي"، مشيرا بذلك إلى أن الحياة ليست طريقة من طرق التفكير في العالم وفق قواعد العقل الجامدة و الجدلية، بل هي بالدرجة الأولى طريقة لإدراك العالم، إدراك في نظره لا يتأتى إلا عن طريق الموسيقى، و إذا كانت الروح الديونيسية في الموسيقى تؤكد لنا أن كل شيء ولد لا بد أن يستعد لمواجهة مصيره المؤلم في الأخير، فإن الموسيقى وحدها قادرة على جعلنا نحدق في الوجود المرعب و نقبل عليه.

  لقد كان كورس الساتير المنشد لأغاني الديثرامب في نظر نيتشه حبل خلاص في الفن اليوناني، هذا الكورس الذي كان يعمل على إحاطة التراجيديا و حمايتها من هجمات الواقع، و الذي هو بمعنى ما " جدار قائم على إبعاد وإقصاء معطيات العالم الخارجي الواقعي وما تحتويه من هموم، و تطاحنات اجتماعية، بحيث تحافظ التراجيديا على أرضيتها المثالية و حريتها الشعرية"[8].

  في الكورس تنكشف معالم الانجذاب إلى العالم الطبيعي بكل تجلياته الحدسية و العفوية، فما جوقة الساتير سوى تعبير عن الحنين إلى النمط البدئي و إلى الطبيعة، لكن السؤال الذي يطرحه نيتشه هو، " إلى أي حد استطاع اليونانيون أن يبقوا على الإنسان البدئي، أي يرجل المراعي ؟ و إلى أي حد استلب الإنسان الحديث بتخنثه بالصورة المسلية للراعي الحساس و هو يعزف على نايه ؟"[9]. لقد نظر اليونانيين (كما يقر نيتشه في الشذرة 8 من ميلاد التراجيديا) إلى الساتير على أنه ممثل للطبيعة البكر، الطبيعة التي لم تغزوها المعرفة بعد. كان الساتير إذن نموذجا للإنسان، إنه التعبير الأرقى و الأقوى عن مشاعر الإنسان، الكائن المرح الملهم بسبب قربه من الآلهة، و هي صحبة عاطفية تثبت الآلهة من خلالها ما تحس به من لواعج الألم، كبشائر بالحكمة الصادرة عن كبد الطبيعة ، كتعبير عن أمومة الطبعة الغامرة ، التي كان اليونانيون معتادين على تبجيلها بروح الدهشة [10].

  تحثنا الموسيقى على الحدس الرمزي للروح الديونيسية، بواسطة هذا الحدس، يعود الإنسان للتوحد مع عالمه الطبيعي في أشكال تعبيرية تعتمد على الرقص بهدف تحرير الجسد وجعله يعانق الزمن الأول، من هنا يطرح أتباع ديونيزوس اللغة والتفرد، و ينخرطون في رقص نشوان، سبيلهم في ذلك الموسيقى و السكر.

  في حضن الطبيعة يتم اختبار الألم في صورة فرح، و هكذا كما يقول نيتشه، نسمع في لحظات الفرح الغامر صرخات الرعب أو البكاء الموجع اشتياقا الى شيء ما فقدناه بلا رجعة، و ما الإنشاد التراجيدي سوى تعبير عن هذا الألم المتجلي في صورة الفرح، إنشاد ترافقه حركات يؤديها المحتفلون، مشيدين بذلك عالما من الرموز، ليس رمزية العين و الفم و الكلمة فقط، بل كل رمزية الجسد، و الحركة الإيقاعية لكل أطراف الجسد عبر الإشارة الكاملة للحركة الراقصة[11].

  الموسيقى التراجيدية هي إذن استعادة للروح الديونيزيسية بكل تمظهراتها الحدسية و الرمزية، لكن هل استطاعت هاته الروح أن تصمد أمام الروح العلمية بمقولاتها المتصلبة ؟ ألم يؤدي تغليب الجانب الأبولوني في الفن إلى القضاء على هذه الروح الديونيزيسية الفريدة؟

ب) بواعث أفول التراجيديا

  ما سبب وصول التراجيديا إلى موتها المحقق ؟ أهي الأخلاق بالمفهوم السقراطي؟ الديالكتيك، التواضع و الابتهاج على ملامح المفكر ؟ كما يصرح نيتشه. هل كان من الممكن أن تستمر التراجيديا محافظة على نقائها  الأصلي بمعزل عن الشرخ الذي أحدثته الفلسفة النظرية بمنهجها الجدلي و تصورها المتعالي للوجود؟ أم أن أفول التراجيديا كان أمرا محتوما ؟ إلى أي حد ساهمت الروح العلمية في القضاء على التراجيديا ؟ أي يمكن اعتبار سقراط و يوربيد عاملي انتحار داخل التراجيديا اليونانية ؟

يفترض نيتشه في الشذرة 17 من كتاب مولد التراجيديا أنه لو تم تحويل مسار التراجيديا عن خطها الأصيل، لأمكننا القول أن هناك صراعا لا ينتهي بين الفلسفة النظرية و الفلسفة التراجيدية، و لجاز لنا القول أنها ستستمر على طرف نقيض للروح العلمية المتفائلة، و لأمكن بالتالي توقع عودة التراجيديا عندما "يصل شوط الروح العلمية إلى نهايته، و تجبره حدود هذه النهاية على التخلي عن ادعائه بحقه في العالمية "[12]، إلا أن تسيد الفلسفة بمنهجها الجدلي العقلي الصارم عمل على الإجهاز على كل صيغة تراجيدية فنية في كنف حضارة اليونان.

  لقد كان سقراط بمنهجه الجدلي و تشبثه بالفضيلة و المعرفة، عاملا حاسما في مصير التراجيديا، سايره في ذلك الشاعر يوربيد الذي قدّم العقل على الجمال، معتبرا أن كل شيء يجب أن يكون عقلانيا قبل أن يكون جميلا، بحيث نسف تماما مبدأ التعلق بالوجود في صيغه الحدسية و العفوية كما دافع عنها نيتشه، و إذا كانت التراجيديا تعلي من شأن التعبير الجسدي و تمجد الانتشاء بالطبيعة، فإن سقراط سينسف هذا الأمر تماما، إذ أعلى من شأن القياس ضدا على الحدس، و اعتبر أن كل "ما يخالف القياس لا بد أن يكون جزءا أخس في النفس"[13]، و منه يكون الألم كما يتصور سقراط دليلا على اللامعقول إذ أن الألم متصل "بالجزء الذي يذكرنا بشقائنا و يدفعنا إلى الحزن، و لا يشفي غليله، و نستطيع أن نسميه باللامعقول والعقيم و الجبان"[14]، و الألم متصل بالانفعال الغضبي، و هو الانفعال الذي يشكل في نظر سقراط مادة غزيرة للمحاكاة، وقد تسربت هذه الرؤية إلى تلميذه أفلاطون الذي شن بدوره حربا ضد المحاكاة بما هي تصوير للعالم في أجلى صوره.

 إذا كان سقراط قد شن حربا لا هوادة فيها ضد التراجيديا، ناسفا بذلك كل إمكانية للمحاكاة، فإن نيتشه بدوره شن حربا ضروسا ضد التصور السقراطي، إذ أن الروح العلمية التي دشنها سقراط كان من نتائجها سيادة العقم و تفشي روح الانبطاح والخنوع، إنها نفي للغريزة و الجسد الذي هو قوة فاعلة متعالية عن العقل و الحكمة و الجدل العقيم، كل هاته المقومات السالبة انبرت حسب نيتشه من الروح المناقضة لديونيزوس (اللاديونيزوسية)، و برز على السطح فرح شاحب رافض لقيم الانجذاب نحو عالم ديونيزوس، "فرح مناهض للعفوية المجيدة لدى اليونانيين القدماء، و نمت زهرة الثقافة الأبولونية التي نهضت من هوة الكآبة، فكانت انتصار الإرادة  اليونانية الساعية إلى تمجيد الجدل و المفهوم الجامد و المتحجر، وهي الثقافة التي عكست عالم الجماليات، و غلبتها على الألم و حكمة الألم "[15]، و هو عينه الألم الذي قال عنه سقراط أنه المسلك اللائق بالنساء فقط أما، و يضيف أنه "عندما يصبنا الحزن نحن أنفسنا ، فإنك تلاحظ أننا نفخر بالصفة المضادة، أي نحاول أن نعتصم بالصبر و السكينة، واثقين من أن هذا هو المسلك اللائق بالرجال"[16]، و لكي لا تغتصب اللذة و الألم يقترح سقراط طرد الشعر الغنائي ومحق كل تجلياته المحاكاتية، فيقول في هذا الصدد محاورا جلوكون: "لا نستطيع أن نقبل في دولتنا من الشعر إلا ذلك الذي يشيد بفضائل الآلهة و الأخيار من الناس. أما إذا لم تكتف بذلك و سمحت للربة المعسولة بالدخول، إما في الشعر الغنائي، وإما في شعر الملاحم، فسوف تغتصب اللذة و الآلام و السيادة من القانون، المبادئ التي وقع إجماع الناس على أنها الأفضل"[17]، هذا الموقف رفضه نيتشه بقوة معتبرا إياه تعبيرا مريضا عن حالة الانغلاق و التحجر الذي يعصف بالروح العلمية التي دشنها سقراط.

  و إذا كان سقراط بمنهجه الجدلي العقيم قد وجه طعنات متتالية للتراجيديا الإغريقية في كل تعبيراتها الشعرية و الغنائية، فإن الشاعر يوربيد لن يقل عن هذا الموقف تصلبا و تشددا، بحيث إذا كان سقراط قد أنزل الفلسفة من السماء على الأرض فإن يوربيد كما يرى نيتشه قد أنزل التراجيديا من السماء إلى الأرض، وعين فوق رأسها جمهورا من المتفرجين الذي أصبحوا يحكمون بما يفهمون، وأصبح المعقول متقدما على الجميل .

  وجهت الروح العلمية ضربات قوية للتراجيديا الإغريقية، فتم الانتصار للروح الأبولونية، للنظام، للعقل، للجدل، ضدا على الروح الديونيزيسية المفعمة بالحياة، بالحدس، بالألم المصطبغ بنكهة الفرح. لكن هل انتهت التراجيديا تماما ؟ هل أجهزت الروح العلمية على كل إمكانية لانبعاث الروح الديونيزيسية مجددا ؟

 

 ج) الموسيقى و التراجيديا: حلم الانبعاث

 

  بعد تاريخ طويل من الخفوت و الضمور الذي طال التراجيديا، اعتقد نيتشه للحظة أن حلم الانبعاث يلوح في الأفق، بحيث وجد أفضل مثال معاصر للرؤية المأساوية في أوبرا صديقه ريتشارد فاجنر، إضافة إلى أفكار أرثر شوبنهاور الذي عمل كموجه لفلسفته لسنوات، لقد بدأ نيتشه بتفسير عقلية فاجنر بوصفها التعبير الأقوى عن روح ديونيزوس، الروح التي حاربتها الروح العلمية بكل عتادها الجدلي والمفهومي و الأخلاقي المتصلب، و اعتقد بذلك أنه قد بشر مجددا بزلزال عنيف سيضرب العقل المتحجر بقوة.

موسيقى فاجنر الأوبرالية، كشفت عن قوى إبداعية لسبر غور هذا العالم الغريزي، المعتم للإنسان، مستخدمة الأسطورة كبدائل فنية. أحس نيتشه بأن آماله الفلسفية معلقة لا على الإبداع الموسيقي فحسب، بل على موسيقى فاجنر تحديدا، علما أن فاجنر كان يستلهم أعماله من التراث اليوناني، فأتت طافحة بالإبداع و الطرافة، إبداع يستحضر فيه فاجنر الأبطال التراجيديين القدامى، وهذا ينطوي على وعد بانبعاث روحي وقومي عبر سحر الموسيقى المتقد.

  إن استدعاء الأسطورة في الموسيقى معناه إعادة خلق و قولبة العالم وفق رؤية جمالية تنفلت من كل حصر عقلي ، فقد قامت فلسفة نيتشه على محاولة بعث قيمة الأسطورة في حياتنا الروحية الحديثة، وخاصة الأسطورة اليونانية، التي تجسدت في الإبداع المسرحي التراجيدي، و فيها وجدت الروح الديونيزيسية الحارة، الغريزية، الغامضة، في مقابل الروح الأبولونية العاقلة المولعة بالنظام والتوازن والضوء. تجسد ذلك في الأدب اليوناني الملحمي، والذي أعطاه الفيلسوف سقراط معادله الفلسفي العقلي.

  إلا أن هذا الانبهار بفن فاجنر، و هذا الطموح الكبير في إعادة بث الفن التراجيدي في ألمانيا الحديثة تحطم تحت صخرة النكوص و إرادة العدم، بحيث كان ظهور أوبرا "بارسيفال" لفاجنر عام 1877 بمثابة الإعلان الصريح عن تنافر المشروع النتشوي و المسار الفاجنري الجديد، هنا كانت علاقة نيتشه بفاجنر تكاد  تكون قد انتهت تماما، ف«بارسيفال»، ذي الطقس الديني المسيحي، الذي انتزع سحر البطولة الوثنية السابقة، يتبنى الرمزية الدينية، و ينقل دماء المسيح و هي تسيل لتفتدي العالم و تخلصه.

  من هنا وصل نيتشه إلى أن فن فاجنر فن مريض، و المشكلات التي يعرضها على المسرح هي مشكلات الهستيريا و الأباطيل... لقد غاص فاجر إلى الأسفل يائسا مهزوما أمام الصليب المسيحي ، و منه أصبح هو و المسيحية في نظر نيتشه مرادفات للتدهور و الضعف و العدمية و إنكار الحياة.

 

على سبيل الختم

  نظر نيتشه لمجمل الفن الإغريقي في مجمله نظرة مغايرة، بل و جديدة كل الجدة، نظرة تكسر المألوف و الغير الأسس، فلم يقدم بذلك تصورا مدرسيا يؤرخ للفن وفق منعرجات و تمفصلات شاحبة، بل إنه قد انقض على طريدته و هي تلهو آمنة مطمئنة في عقر دارها، و كان الفن التراجيدي خير مجسد لهذه الطريدة، التي أجاد نيتشه فن اصطيادها كفنان عاشق متعلق بمعشوقته حتى الموت.

  لقد لاحق نيتشه هذه المعشوقة (التراجيديا) في مهدها الأول، من الأب ديونيزوس، و سحر الموسيقى، إلى التضييق و الخناق الذي أقامته الروح العلمية على هذه المعشوقة الفاتنة، وصولا إلى حلم الانبعاث، انبعاث المعشوقة من رمادها، كما انبعث الأصل الأول. لكن هل تركت الروح العلمية إمكانية انبعاث جديد لهذه المعشوقة ؟ و هل من انبعاث جديد لعاشق آخر لهذه المعشوقة المصلوبة فوق جدار النكوص و التصلب و الجمود ؟

 

 

 

 

 



[1] : Jean L EFRANC, Comprendre Nietzsche, Armand Colin, Pris 2005, p 61

[2] : فريدريك نيتشه ، مولد التراجيديا ، ترجمة محمد الناجي ، أفريقا الشرق ، الدار البيضاء –المغرب- 2011 ، ص 35

[3] : المصدر السابق ص 39

[4] : إدريس جبري ، مفهوم التراجيديا عند نيتشه ، مجلة فكر و نقد ، عدد 15 ، دار النشر المغربية ، الدار البيضاء ، 1999 ، ص 103

[5] : محمد مزوز ، أزمة الحداثة و عودة ديونيزوس ، مجلة فكر و نقد ، عدد 21 ، دار النشر المغربية ، الدار البيضاء 1999

[6] مولد التراجيديا ، مصدر سابق ، ص14

[7] : حمل الكتاب في الأصل عنوان "مولد التراجيديا من روح الموسيقى" ، و قد صدرت طبعته الأولى سنة  1872

[8] : فريدريك نيتشه ، مولد التراجيديا ، ترجمة شاهر حسين عبيد ، دار الحوار للنشر و التوزيع ، سورية –اللاذقية- ط 1 سنة 2008 ص 121

[9] : المصدر السابق ص 126

[10] : المصدر السابق ص 127

[11] : مولد تراجيديا ، مصدر سابق ص 91

[12] : المصدر السابق ص 200

[13] : أفلاطون ، محاورة الجمهورية ، ترجمة  فؤاد زكريا ، المؤسسة المصرية العامة للتأليف و النشر . ص 372 ت د 603

 

[14] : المصدر السابق ص 374 ت د 604

[15] : مولد تراجيديا ، مصدر سابق ص 205

[16] : محاورة الجمهورية ، مصدر سابق ص 376 ت د 605

 

[17] : المصدر السابق ص 377 ت د 607

المصادر و المراجع المعتمدة

-         Jean L EFRANC, Comprendre Nietzsche, Armand Colin, Pris 2005

-         فريدريك نيتشه ، مولد التراجيديا ، ترجمة محمد الناجي ، أفريقا الشرق ، الدار البيضاء –المغرب

-         فريدريك نيتشه ، مولد التراجيديا ، ترجمة شاهر حسين عبيد, دار الحوار للنشر و التوزيع ، سورية –اللاذقية- ط 1 سنة 2008

-         أفلاطون، محاورة الجمهورية، المؤسسة المصرية العامة للتأليف و النشر

-        إدريس جبري، مفهوم التراجيديا عند نيتشه، مجلة فكر و نقد، عدد 15

-        محمد مزوز ، أزمة الحداثة و عودة ديونيزوس ، مجلة فكر و نقد، عدد 21

من إنجاز الطالب الباحث محمد جلال، سنة 2015

0 comments:

إرسال تعليق

أترك تعليقا للتعبير عن رأيك